.أبو المجد بن أبي الحكم:
هو أفضل الدولة أبو المجد محمد بن أبي الحكم، عبيد اللَّه بن المظفر بن عبد اللَّه الباهلي، ومن الحكماء المشهورين، والعلماء المذكورين، والأفاضل في الصناعة الطبية، والأماثل في علم الهندسة والنجوم، وكان يعرف الموسيقي، ويلعب بالعود، ويجيد الغناء والإيقاع والزمر وسائر الآلات، وعمل أرغنًا وبالغ في إتقانه، وكان اشتغاله على والده وعلى غيره بصناعة الطب، وتميز في علمها وعملها، وصار من الأكابر من أهلها، وكان في دولة السلطان الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي رحمه اللَّه، وكان يرى له ويحترمه، ويعرف مقدار علمه وفضله، ولما أنشأ الملك العادل نور الدين البيمارستان الكبير جعل أمر الطب إليه فيه، وأطلق له جامكية وجراية، وكان يتردد إليه ويعالج المرضى فيه، وحدثني شمس الدين أبو الفضل بن أبي الفرج الكحال المعروف بالمطواع، رحمه اللَّه، أنه شاهده في البيمارستان، وأن أبا المجد بن أبي الحكم كان يدور على المرضى به ويتفقد أحوالهم، ويعتبر أمورهم وبين يديه المشارفون والقوام لخدمة المرضى، فكان جميع ما يكتبه لكل مريض من المداواة والتدبير لا يؤخر عنه ولا يتوانى في ذلك، قال وكان بعد فراغه من ذلك وطلوعه إلى القلعة وافتقاده المرضى من أعيان الدولة يأتي ويجلس في الإيوان الكبير الذي للبيمارستان وجميعه مفروش، ويحضر الاشتغال، وكان نور الدين رحمه اللَّه قد وقف على هذا البيمارستان جملة كبيرة من الكتب الطبية، وكانت في الخرستانين اللذين في صدر الإيوان فكان جماعة من الأطباء والمشتغلين يأتون إليه ويقعدون بين يديه، ثم تجري مباحث طبية ويقرئ التلاميذ، ولا يزال معهم في اشتغال ومباحثة، نظر في الكتب مقدار ثلاث ساعات، ثم يركب إلى داره، وتوفي أبو المجد بن أبي الحكم بدمشق في خمسمائة.
.ابن البذوخ:
هو أبو جعفر عمر بن علي بن البذوخ القلعي المغربي، كان فاضلًا خبيرًا بمعرفة الأدوية المفردة والمركبة، وله حسن نظر في الاطلاع على الأمراض ومداواتها، وأقام بدمشق سنينًا كثيرة، وكانت له دكان عطر باللبادين يجلس فيها، ويعالج من يأتي إليه أو يستوصف منه، وكان يهيئ عنده أدوية كثيرة مركبة يصنعها من سائر المعاجين والأقراص والسفوفات وغير ذلك، يبيع منها وينتفع الناس بها، وكان معتنيًا بالكتب الطبية والنظر فيها وتحقيق ما ذكره المتقدمون من صفة الأمراض ومداواتها، وله حواش على كتاب القانون لابن سينا، وإن له أيضًا اعتناء بعلم الحديث، ويشعر وله رجز كثير إلا أن أكثر شعره ضعيف منحل، وعمّر عمرًا طويلاً، وضعف عن الحركة حتى إنه كان لم يأت إلى دكانه إلا محمولًا في محفة، وعمي في آخر عمره بماء نزل في عينه، لأنه كان كثيرًا يغتذي باللبن ويقصد بذلك ترطيب بدنه، وتوفي بدمشق في سنة خمس أو ست وسبعين وخمسمائة.ومن شعر ابن البذوخ قال وهو من قصيدة كبيرة له في ذكر الموت والمعاد فمن مختارها:
يا رب سهل لي الخيرات أفعلها ** مع الأنام بموجودي وإمكانيفالقبر باب إلى دار البقاء ومن ** للخير يغرس أثمار المنى جانيوخير أنس الفتى تقوى بصاحبه ** والخير يفعله مع كل إنسانيا ذا الجلالة والإكرام يا أملي ** اختم بخير وتوحيد وإيمانإن كان مولاي لا يرجوك ذو زلل ** بل من أطاعك من للمذنب الجانيعشر الثمانين يا مولاي قد سلبت ** أنوار عيني وسمعي ثم أسنانيلا أستطيع قيامًا غير معتمد ** ما بين اثنين شكوائي لرحمانيوما بقي في لذيذ يستلذ به ** لي لذة غير تنصيت لقرآنأو شرحه أو شروحات الحديث وما ** يختص بالطب أو تفكيه أقرانفالشيخ تعميره يفضي إلى هرم ** يذله أو عمى أو داء أزمانفموته ستره إذ لا محيص له ** عن الممات فكم يبقى لنقصاننعوذ باللَّه من شر الحياة ومن ** شر الممات وشر الإنس والجانإن الشيوخ كأشجار غدت حطبا ** فليس يرجي لها توريق أغصانلم يبق في الشيخ نفع غير تجربة ** وحسن رأي صفا من طول أزمانيا خالق الخلق يا من لا شريك له ** قد جئت ضيفًا لتقريني بغفرانمولاي مالي سوى التوحيد من عمل ** فاختم به منعمًا يا خير منانوقال في مدح كتب جالينوس:
أكرم بكتب لجالينوس قد جمعت ** ما قال بقراط والماضون في القدمكديسقوريدس علم الدواء له ** مسلم عند أهل الطب في الأممفالطب عن ذين مع بقراط منتشر ** من بعدهم كانتشار النور في الظلمبطبهم تقتدي الأفكار مشرقة ** ترى ضياء الشفا في ظلمة السقملاتبتغي في شفاء الداء غيرهم ** فإن وجدانه في الطب كالعدملأنهم كملوا ما أصّلوه فما ** يحتاج فيهم إلى إتمام غيرهمإلا الدواء فما تحصى منافعه ** وعده كثرة في العرب والعجمعد النجوم نبات الأرض أجمعها ** من ذا يعد جميع الرمل والأكمفي كل يوم ترى في الأرض معجزة ** من التجارب والآيات والحكمولابن البذوخ من الكتب شرح كتاب الفصول لأبقراط، أرجوزة، شرح كتاب تقدمة المعرفة لأبقراط أرجوزة، كتاب ذخيرة الألباء، المفرد في التأليف من الأشباه، حواش على كتاب القانون لابن سينا.
.حكيم الزمان عبد المنعم الجلياني:
هو حكيم الزمان أبو الفضل عبد المنعم بن عمر بن عبد اللّه بن حسان الغساني الأندلسي الجلياني، كان علامة زمانه في صناعة الطب والكحل وأعمالهما بارعًا في الأدب وصناعة الشعر وعمل المديحات، أتى من الأندلس إلى الشام، وأقام بدمشق إلى حين وفاته، وعمر عمرًا طويلاً، وكانت له دكان في اللبادين لصناعة الطب، وكان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب يرى له ويحترمه، وله في صلاح الدين مدائح كثيرة، وصنف له كتبًا وكان له منه الإحسان الكثير والإنعام الوافر، وكان حكيم الزمان عبد المنعم يعاني أيضًا صناعة الكيمياء، وتوفي بدمشق في ستمائة وخلف ولده عبد المؤمن بن عبد المنعم وكان كحالًا ويشعر أيضًا ويعمل مديحات، وخدم بصناعة الكحل الملك الأشرف أبا الفتح موسى بن الملك العادل أبي بكر ابن أيوب وتوفي بمدينة الرها في عشرين وستمائة.ومن شعرحكيم الزمان عبد المنعم الجلياني مما نقلته من خطه، وهو أيضًا مما سمعته من أبي قال أنشدني الحكيم عبد المؤمن المذكور، فمن ذلك قال يمدح الملك الناصر صلاح الدين أبا المظفر يوسف بن أيوب ووجهها إليه من مدينة دمشق إلى مخيمه المنصور بظاهر عكا، وهو محاصر للفرنج المحاصرين لمدينة عكا، فعرضت عليه في شهر صفر سنة سبع وثمانين وخمسمائة، وهذه القصيدة تسمى التحفة الجوهرية:
رفاهية الشهم اقتحام العظائم ** طلابًا لعز أو غلابًا لضائمفلم يحظ بالعلياء من هاب صدمة ** فغض عنانًا دون قرع الصوارمفأي اتضاح كان لا بعد مشكل ** وأي انفساح بان لا عن مآزمهي الهمة الشماء تلحظ غاية ** فترمي إليها عن قسي العزائمفما انساح سرب لم يصل سبب العلا ** ولا ارتاح ندب لم يصل بصوارمفليس بحي سالك في خسائس ** وليس بميت هالك في مكارموما الناس إلا راحلون وبينهم ** رجال ثوت آثارهم كالمعالمبعزة بأس واطلاع بصيرة ** وهزة نفس واتساع مراحمحظوظ كمال أظهرت من عجائب ** بمرآة شخص ما اختفى في العوالموما يستطيع المرء يختص نفسه ** ألا إنما التخصيص قسمة راحموأعظم أهل الفضل من ساد بالقوى ** فقاد بسبق الطبع أقوى الأعاظمترى ضمت الأفلاك ملكًا كيوسف ** من الجبل اللاتي خلت في الأقادمفما مثل ملك ساسه في أحادث ** ولا مثل حرب هاجها في ملاحمأباني دار العدل في مارق الوغى ** بمسرب آن من دماء الغواشمفديتك من معل لدينك مبتن ** وأفديك من مبل لضدك هادمفأنت الذي أيقظت حزب ** محمد جهادًا وهم في غفلة المتناومفحاربت للإيمان لا لضغائن ** ورابطت للرضوان لا لمغانمأجدك لن ينفك يضرب هكذا ** قبابك حيث اشتك سدم اللهاذموفي حجرات النقع سيح ** صوارخ كأمواج لج للهضاب ملاطمومقلعة أمراسها وشراعه ** عنان وخفاق بصعدة داهمفكيف رست فيها خيامك إذ ** جرت سفين كماء في بحار شياظمفلم يبق إلا ملتق بأسنة ** ولا يلق إلا متق بحيازمفلا طنب إلا توثب مقدم ** ولا وتد إلا تجلد عارمفدارك والأبطال ثارث ** حيالها مقر سرور في مفر مآثملأنك فيها إذ هفوا جالس ** على سرير ثبات مطمئن القوائموأنك فيهم إذ سطوا خالس ** طلي كبير نياب مرجحن الشكائمفأنت المليك الناصر الحق ** ممعنًا يرى دهم شوك الحرب مهد النواعمأتعشقك الهيجاء أم أنت ** عاشق لها في وصال من حبيبين دائمشتاء وصيفًا لا نزال نرا ** في مساء وصبح كالأذان الملازمفهجرت حتى قيل ليس بقائل ** وبيت حتى قيل ليس بنائموأرجفت رومًا إذ خرقت فرنجة ** فكانوا غثاء في سيول الهزائمكددتهم أعلى التلال كأنهم ضباب ** كدى فزّت لأضباب حاطموفيت لهم حتى أحبوك ساطيا ** فهم وفاء العهد قيد المخاصمفخانوا فحابوا فانتدوا فتلاوموا ** فقالوا خذلنا بارتكاب الجرائموخص صلاح الدين بالنصر ** إذ أتى بقلب سليم راحمًا للمسالمفحطوا بأرجاء الهياكل صورة ** لك اعتقدوها كاعتقاد الأقانميدين لها قس ويرقى بوصفها ** ويكتبه يشفى به في التمائميعجل للمرء الجزاء بفعله ** فطوبى لصبار وبؤس لآثموقد يفسد الحر الكريم جليسه ** وتضعف بالإيهام قوة حازمإذا لج لوم من سفيه لراشد ** توهم رشدًا في سفاهة لائمعجبت من الإنسان يعجب ** وهو في نقائص أحوال قسيم السوائميرى جوهر النفس الطليق فيزدهي ** ويذهل عن أعراض جسم لوازمديون اضطرار تقتضي كل ** ساعة فتنقرض الأعمار بين المغارموكل فمغرور بحب حياتي ** ويغريه بالأدنى خفاء الخواتموجمَّاع مال لا انتفاع له به ** كما مص مشروطًا زجاج المحاجميفيض وما أوعاه يرعاه مهدفًا ** لرشفة صاد أو لرشفة صادمومن عرف الدنيا تيقن أنها ** مطية يقظان وطيفة حالمفلله ساع في مناهج طاعة ** لإيلاف عدل أو لإتلاف ظالمأفاتح بيت القدس سيفك مفتح ** لقفل الهدى مغلاق باب المآثمحكمت في الضدين غير معارض ** فأحكمت في نفر الوغى المتخاصمفأطلقت تركًا في ظهور سوابح ** وأغربت شركًا في بطون القشاعمغداة قَدَحْت البيض في آل ** أصفر فلم يبق زند منهم في معاصموإذ درجوا كالرمل أعجز ** عدة إلى تل عكا كالدبى المتراكموكالنحل ملتفًا كوارثه ** هوى من التل تخشى منهم كالمرادمكأن لهم في تل عكا مصادة ** يحاش لهاأسراب وحش سوائمفسرب كسير موبق في حفائ ** وسرب حسير مرهق في مقاحمفكم ملك منهم أتاها بكثرة ** فزادهم نقصًا زيادة عادميشقون من إسبان أثباج زاخر ** ومن رومة الكبرى فجاج مخارمفهالوا بنجدَيْ جاريات ووخد ** وذابوا بحديْ مخدم لك هاضمغلست الطراز الأخضر الرقم ** منهم بصوت نجيع أحمر القطر ساجمولو أنبت المرج النفوس لأينعت ** بما ساح فيه عن حشا وغلاصمقليب كلى يسقى بأشطان ذابل ** وعين طلى تجري بميزاب صارموأضلع فرسان نعال سوابك ** وأرؤس أعيان غواشي البراجمكذا فليرصع جوهر القول ** متحف به لمليك مثل يوسف عالمفتى ذهنه يرمي بشهب خواطر ** تشق دجون المغمضات العواتميهاب رقيق الشعر رقة طبعه ** كما هاب منه اليأس غلب الضراغموينتحل الوصاف رونق نعته ** كما انتحلت جدواه وطف الغمائموما زلت أجلو من حلاه عرائسًا ** يظل بها أهل النهى في ولائمبمنتظم التفضيل طلق كأنه ** مفلج ثغر مستنير المباسممعان كبهر السحر في عقد ناظر ** ولفظ كشذرالتبر في عقد ناظمسما عن حضيض الشعر في أوج ** حكمة وجل بصاحي الفكر عن نهج هائمستنسى بذكراه أقاويل من مضى ** وينبت نورًا شائعًا في الأقالمكما شاع هذا الأمر في الخلق ** مزريًا بتبع أعراب وكسرى أعاجمففرضًا أرى مدحي له متجنبًا ** مديح سواه كاجتناب المحارموليس اجتداء بل تحية شاكر ** وتأييد آثار وتأييد عازمفيا خير قوام على خير ملة ** يكافح عنها كل ألب مقاومتمسك بحبل اللّه معتصمًا به ** فليس سواه ناصر نصر عاصمتمسك بمن أعطاك ما قد رجوته ** ويعطيك ما ترجو لحسنى الخواتمبعثت بها والشوق يقدم ركبها ** إلى مجلس فيه منى كل قادمبعيد المدى عدن الجدا نار من عدا ** مفيد الهدى مروي صدى كل حائمسلام على ذاك المقام الذي به ** أقيم عمود المكرمات العظائموقال أيضًا:
أقبل ذو دولة فقالوا ** لمثل ذا فاتخذ ملاذافقلت للحاضرين حولي ** أجائز أن يموت هذاقالوا نعم قلت فهو طل ** يعطش من ظنه رذاذاقد ذل من لاذ بالفواني ** وعز من بالقديم لاذاوقال أيضًا:
من لم يسل عنك فلا تسألن ** عنه ولو كان عزيز النفروكن فتى لم تدعه حاجة ** إلى امتهان النفس إلا نفروقال أيضًا:
لا تصدّق عليك عقد صداق ** واغن بالمطل فيه عن ترويجومتى ما ذكرت يوم الخطب ** فلتكن خطبة بلا تزويجوقال أيضًا:
قالوا نرى نفرًا عند الملوك سموا ** وما لهم همة تسمو ولا ورعوأنت ذو همة في الفضل عالية ** فلم ظمئت وهم في الجاه قد كرعوافقلت باعوا نفوسًا واشتروا ثمنًا ** وصنت نفسي فلم أخضع كما خضعواقد يكرم القرد إعجابًا بخسته ** وقد يهان لفرط النخوة السبعولحكيم الزمان عبد المنعم الجلياني عدة من الكتب، فما قاله من منظوم الكلام ومطلقه عشرة دواوين الأول ديوان الحكم وميدان الكلم يشتمل على الإشارة إلى كل غامض المدرك من العلم، وإلى كل صادق المنسك من العمل، وإلى كل واضح المسلك من الفضيلة وهو نظم والثاني ديوان المشوقات إلى الملأ الأعلى وهو نظم، والثالث ديوان أدب السلوك، وهو كلام مطلق يشتمل على مشارع كلمات الحكمة المبصرات، والرابع كتاب نوادر الوحي، وهو يشتمل على كلام حكمة مطلق في غريب معان من القرآن العظيم، ومن حديث الرسول عليه أفضل الصلاة والتسليم والخامس كتاب تحرير النظر، وهو يشتمل على كلمات حكمة مفردات في البسائط والمركبات والقوى والحركات، والسادس كتاب سر البلاغة وصنائع البديع في فصل الخطاب، والسابع ديوان المبشرات القدسيات وهو نظم وتدبيج وكلام مطلق، يشتمل على وصف الحروب والفتوح الجارية على يد صلاح الدين أبي المظفر يوسف بن أيوب فاتح مدينة البيت المقدس في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، والثامن ديوان الغزل والتشبيب والموشحات والدوبيتي، وما يتصل به منظوماً، والتاسع ديوان تشبيهات وألغاز ورموز وأحاجي وأوصاف وزجريات وأغراض شتى منظوماً، والعاشر ديوان ترسل ومخاطبات في معان كثيرة وأصناف من الخطب والصدور والأدعية، وله أيضًا من الكتب كتاب منادح الممادح وروضة المآثر والمفاخر، من خصائص الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب ألفه في سنة تسع وستين وخمسمائة، تعاليق في وصفات أدوية مركبة.